أيها الناس: من أعظم ما ينفع المؤمن في حياته وبعد مماته معرفته بمقامات عبوديته لربه سبحانه وتعالى؛ ففي السراء عبادة الشكر، وفي الضراء عبادة الصبر. والصبر على المصائب والاسترجاع فيها مقام جليل من مقامات العبودية الحقة، وصاحبه يجازى بأعظم الثواب؛ لأن الله تعالى يجزي الصابرين أجرهم بغير حساب. وما أحوج الناس في هذا الزمن لفهم سنن الله تعالى في المصائب، وفقه مواجهتها بالصبر والاسترجاع؛ إذ الزمن مخوف، والمخاطر تحيط بالأفراد والدول والأمم من كل جانب { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157]. فسنة الله تعالى في عباده المؤمنين أن يبتليهم بالمحن، ويمسهم بالضراء، ويصيبهم بالمصائب؛ ليتبين الصادق من الكاذب، والجازع من الصابر؛ لأن السراء لو استمرت لأهل الإيمان ، ولم يحصل معها محن وابتلاء؛ لاختلط أهل الإيمان بأهل النفاق ، ولم يتمايز طلاب الدنيا عن طلاب الآخرة؛ إذ في حال العافية والرخاء يتظاهر الجميع بالإيمان والإخلاص.
فلا بد من مصائب خاصة وعامة تصفي هذا الخليط؛ فحكمة الله تعالى تقتضي تمييز أهل الخير من أهل الشر. فهذه فائدة المحن والمصائب، وليست لإزالة ما مع المؤمنين من الإيمان، ولا ردهم عن دينهم، معاذ الله أن يفعل ذلك بعباده المؤمنين، وما كان سبحانه ليضيع إيمانهم؛ ولذا كانت الإصابة بقليل من الخوف والجوع؛ لأنه ابتلاء وليس عذابا، وفي العذاب قال سبحانه { فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112] وفرق كبير بين الإذاقة بلباس الجوع والخوف، وبين الإصابة بشيء منه، وهذا يبين رحمة الله تعالى بالمؤمنين، وأنه يريد الخير لهم بما يصيبهم، فيكون تذكرة لهم في نسيانهم، وتنبيها لهم من غفلتهم، مع ما ينالهم من الأجر على مصابهم إن هم صبروا واسترجعوا. فالابتلاءات تمحص وتصفي ولا تهلك وتوبق. ثم إن هذه المصائب التي يصاب بها الفرد أو الأمة قد تكون في باب الجوع والخوف، وهما من أشد المصائب؛ لأن الجوع يؤلم البدن ويوهنه، والخوف يشغل القلب ويتلفه، ولولا أن البلاء كان بشيء من الجوع والخوف سرعان ما يزول؛ لقضى على صاحبه. ومن البلاء: النقص في الأموال والأنفس والثمرات بما يصيبها من جوائح، أو ما يقع عليها من اعتداء بالغصب أو السرقة أو الاتلاف.